تآكل- القصة الفائزة بمسابقة قصص على الهواء التي تنظمها إذاعة مونتي كارلو الدولية بالتعاون مع مجلة العربي الكويتية 2025م

بنظرةٍ قلقةٍ يمسح الفلواتِ البعيدة، تُولد الشمس في الأفق، تلسعه بأشعتِها الحارقة، وما إن تتوارى داخل بيتها السماوي، فينخر البردُ عظامه، هكذا تقطّعت به السبلُ في صحراء قاحلة، لا زاد له، سوى كبريتةٍ واحدةٍ وعصًا قصيرة. يقضي نهارَه المُمِلَ في جمعِ فُتات الحطب، وعندما تَنامُ الشمس، يَشعلُ نارَه علّها تضيء بعيدًا، فتجذب له قافلة، تنجيه من صحرائه البائسة.

ثلاثةُ أعوادِ ثقابٍ تحدد مصيرَ حياته، في يومِه الأول كوّم ما جمعه من حطب، أخذ عودَ الثقابِ الأول، أشعل نارَه، حرّكها بعصاه، فسما لهيبها، ومثل هندوسيٍّ غارقٍ في العبادةِ تحكّر أمامها، عيناه تُمشّطُ أطرافَ المكان، ترتعش أطرافُه باستمرار، وكلما خفتتِ النار، يحرّكها بعصاه، فيتآكل جزءٌ منها، كان الليل موحشًا، لا يكاد يسمع صوتًا، سوى دقاتِ قلبه، تنفس رئتيه، وحركة معدته وإمعائه، كأنه في غرفةٍ عديمةِ الصدى، تتناثرُ النجومُ من فوقِه والحيّاتُ السامةُ بين قدميه.

 ذهب عودُ الثقابِ الأولِ مع الريحِ وأخذ معه جزءًا من صبرِه الواهن، وقِواه الخائرة، نفّض خيبةُ الليلةِ الماضية، هبّ واقفًا، مشى بلا هدى، ودون أن تتعثرَ قدمُه بشيء خرّ على وجهه، “فأدرك أن العثرة في قلبه وليست في الطريق”، مكث في مكانه طويلًا، فكّر في مصيرِه المجهولِ ومستقبلِه المأزوم، غشاه طيفٌ من مدينته البعيدة، شوارعُها التي تضِجُّ بالحياة، أشجارُها المثمرة ونساؤها الجميلات، لِمَ الموت إذن؟ فالحياة لا تزال بخير، ثمة كتبٌ لم تُقرأ بعد، مقطوعاتٌ موسيقيةٌ لم تُسمع، وقُبَلٌ مؤجّلةٌ، ما زال في العمرٍ بقية، وفي الكأس قطرات، قرر ألا يستسلم لذراتِ الرملِ الحاقدة، أن يقاتلَ حتى النَفَس الأخير، انتفض مرةً أخرى، هرول باتجاهاتٍ مختلفة، باحثًا عن فُتات الحطب، غاصت رجلُه اليمنى في الرمل، استنجد برجلهِ اليسرى، فغاصت هي أيضًا، كأن الصحراءَ قررت ابتلاعه.

 ومن فرطِ تشبُّثِه بالحياة، غاص في سرابِ الأمنيات، تمنى لو كان مثل حيواناتِ الصحراءِ المصفحة، التي تملأ جوفَها بالمياه، تحتفظ بها لفترات، سيقانُها الطويلةُ تقيها حرارةَ الرمل، وجلدُها سميكٌ، يصد زمهريرَ الشتاء، شعر بالغيرةِ من سُلالةِ الزواحف، التي تأخذ طعامَها، وتختفي تحت الرمال، تمكث عامًا كاملًا، وفي موسمِ الأمطار، تُطِل برأسها، معلنةً دورة حياتها الجديدة.

 في يومِه الأخيرِ تبقى له عودُ ثقابٍ واحد، وعصًا بحجم الإصبع، أهلكه الجوعُ والعطشُ، تلفت يمنةً ويسرى، على أمل أن يرى شيئًا، في هذه المساحةِ الشاسعة، لكن ملأ الفراغُ عينيه وصفعه السراب، واصل سيره، قطع مسافةً بعيدةً باحثًا عن الحطب، أعد رزمةً منه، كوّمها في مكانها المخصص، جلس بالقربِ منها، استخرج عودَ الثقابِ الأخيرِ وعصاه المتآكلة، وضعهما بالقربِ منه، انتظر في صبر اختفاءَ الشمس، ليوقد نارَه الهادئةَ ويختبر حظَّه الغريب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *