دلّك أبي موضعَ الألم بزيت السمسم المخلوط بالملح، تلى ما تيّسر من الذكر الحكيم، بصق في المكان ثلاث مرات، أحكم ربطه بعُمامته البيضاء الكبيرة، وعندما هممتُ بالمغادرة قال لي: “إنه أمرٌ عاديٌّ، مجرَّد تمزُّقِ في العضلات، ستستيقظ غدًا بخير”، التزمتُ الصمتَ وتوجهتُ إلى فراشي برفقةِ هذا الألمِ الغريب، نمتُ وأنا على موعدٍ مع الأحلام.
كان اليوم عيدًا، والحربُ في ذروةِ اشتعالِها، وكنتُ أتمشى بمفردي في الطريق، ثم قررتُ الذهابَ إلى النيلِ لأشكو له همومَ الحرب، ودون أن أدري وجدتني أقف أمامَ نقطةِ تفتيشٍ عسكرية، وكان هناك رهطٌ من المارَّةِ يجري استجوابُهم من قبل الضابط، قال رجلٌ للضابط إنه لا يَحملُ بطاقةَ هويتِه برفقته، فاتهمه الضابطُ بأنه يتبعُ لقواتِ العدو، ومباشرةً أخذ سلاحَه وقتل الرجلَ وسط ذهولِ الحاضرين.
رأيتُ الشرَ يتطايرُ من عينيْ الضابط، والخوفَ يملأُ قلوبَ الرجالِ ويلجمُ ألسنتهم، ترددتُ في بادئ الأمر، ثم قررتُ أن أقهرَ مخاوفي وأنتصر عليها. الرصاصُ يقتل مرةً واحدةً، لكن الخوفَ يَقتلُ ألفَ مرة، اخترقتُ الجمعَ حتى وقفتُ أمام الضابط، حدقتُ داخل عينيه في تحدٍّ، قلتُ له وعيناي مغروستان داخل عينيه: “ماذا تظن أنك فاعل؟”، ذمَّ شفتيه بغضب، تراجع خطواتٍ إلى الخلف، صوّب سلاحه تجاهي، قلتُ له “إذا ضربتني بهذا السلاح أو قذفتني بقنبلة هذا لا يُغيِّرُ شيئًا، فما قمت به خطأ وسيظل كذلك” امتلأتْ عيناه بالشر، اقترب منِّي، ضربني بمؤخرة السلاح ضربةً قوية، فسقطتُ أرضًا فاقدًا الوعي.
لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا على تلك الحالة، أفقتُ برشةِ ماءٍ باردٍ على وجهي، فتحتُ عيني تدريجيًا، لاحت لي كتلةٌ سمراء مستديرة الشكل، كلما اتسعت عيناي أصبحت أكثر وضوحًا، ظهر لها أنفٌ، ثم عينان صغيرتان، وشعرٌ قصيرٌ، رقبةٌ وكتفان عريضان، أغمضت عيني، مسحتُ رذاذَ الماء العالق برموشي، فتحتها مرة أخرى، فإذا بجالسٍ أمامي، هو أبي.
كان المكانُ خاليًا، اختفت الجثةُ وقاتلُها، واختفت نقطةُ التفتيش العسكرية، لكن ظلت فردةُ حذاءِ القتيلِ باقيةً في مكانِ سقوطِه، وبينما كنتُ أُحدِّقُ في دمِه المسكوبِ على الأرضِ بعينين مليئتين بالأسئلةِ قال لي أبي: “هيا بنا إلى الطبيب”. اتكأتُ عليه وانطلقنا.
بينما كنا نمشي تخشَّبت يدي اليمنى. أُصيبَ مكانُ الألمِ بالخدر، بدا كأنه لم يعُدْ جزءًا من جسدي، وشعرتُ بأن هذه اللحظاتِ عشتها من قبل بكلِّ تفاصيلها، بحيث أنني أستطيعُ أن أتوقعَ ما سيحدث لي بعد ذلك.
وعند وصولنا كانت أبوابُ المستشفى مشرعةً، لكنها كانت خاليةً تمامًا كما توقعتُ، خرجنا من هناك، مشينا في الطرقاتِ ببطء، وعندما مررنا بالميدانِ الكبيرِ؛ وجدنا الناسَ قد اجتمعوا هناك، وفجأة كبُرت آذانُهم، برزت أفواهُهم إلى الأمام، استطالت أسنانُهم، ظهرت لبعضهم ذيولٌ، وبدأوا يصدرون أصواتًا غريبة، ثم هجموا على بعضِهم، عضوا بعضَهم بحقد، أكلوا لحومَ بعضِهم، تلطخت الجلابيبُ البيضاءُ بالدماء، فُقئتْ أعينٌ وشُجَّتْ رؤوسٌ، اختبأنا خلفَ شجرةٍ صغيرةٍ حتى لا يرانا أحدٌ منهم، ولسوء الحظِ لاحظ رجلٌ مكانَ اختبائنا، فشنوا علينا هجومًا، أحاطوا بنا من كلِّ الاتجاهات، غرس أحدهم أسنانَه الطويلةَ في صدرِ أبي، امتلأ جلبابُ أبي بالدماء، سقط أرضًا واختفى، حاولتُ أن أنجو بنفسي؛ لكن تخشّبت كل أطرافي، صرختُ، فاختفى صوتي بذات الطريقة التي اختفى بها أبي، ظللتُ أصرخ وأصرخ؛ حتى استيقظ أبي في الغرفةِ المجاورة، جاءني مهرولًا، دفع بابَ الغرفةِ ودخل، أيقظني، جلس بالقربِ مني وقال: “كنت تصرخ، يبدو أن كابوسًا ما أزعج نومك المتقطع”، أبعدتُ الغطاءَ عن جسدي وقلتُ: “ليس كابوسًا، بل رأيتُ الحقيقة”، تساءل: “أي حقيقة”، قلتُ: “الألمُ الذي أصاب كتفي بالأمس، ليس مجردَ تمزقٍ مجهولِ المصدر، لقد رأيتُ في الحلمِ كلَّ شيء، رأيتُ كلَّ ما حدث قبل أن يُغمى عليّ، لقد ضربني الضابطُ بمؤخرة سلاحه، لأنني أنكرتُ عليه قتلَ رجلٍ بريء”، هبَّ أبي واقفًا وقال: “هذه مجرد أحلام”، قلتُ بصوتٍ مرتفعٍ قليلًا عن عادتي: “ألم ترَ حذاءَ الرجلِ والدماءَ التي ملأت المكان؟”، صمت أبي، فسألته بذات النبرة: “ما هو تفسيركُ لهذا الأمر؟” أجابني بصمتِه القاتلِ، قلتُ: “كلُّ شيءٍ زائفٌ في هذا العالم، الأحلامُ هي الحقيقةُ الوحيدة، وحياتُنا عبارةً عن حلمٍ مستمر” قال: “لا ينبغي علينا أن نحلمَ طالما أننا لا نستطيعُ إيقافَ الحرب”، قلتُ: “حتى وإن كنا لا نستطيع إثباتَ الحقيقةِ يجب علينا ألا نصدق الأكاذيب” قال: “وماذا نستفيد من حقيقةٍ لا يمكن تطبيقُها في أرضِ الواقع؟”، قلتُ: “حسنًا، دع عنك كلَّ هذا، في طريقِ عودتِنا ألم ترَ الرجالَ ذوي الأسنانِ الطويلةِ ينهشون لحمَ بعضِهم”، قال بصوتٍ واثق: “لم يكونوا كذلك، كانوا فرحين يهنئ بعضُهم البعضَ بمناسبةِ العيد”، قلتُ: “و ما حقيقة ذلك؟” صمت قليلًا، تقدم ناحية الباب، وقال دون أن يلتفتَ نحوي: “كانوا يبتسمون ويعانق بعضهم بعضًا بمحبةٍ وسلام” قلتُ: “هل كانت ابتساماتهم صادقة” أمسك مقبضِ الباب، وقال: “ليست كذلك، لكنني أتعامل بالظاهر” قلتُ: “لماذا اختبأنا منهم إذن؟”، أدار المقبض، فتح الباب وقبل أن يخرج قال: “خفنا سلاطةَ ألسنتهم التي ستنقل أخبارنَا إلى كلِّ مكان”، بينما كنتُ أعيدُ ترتيبَ فراشي قلتُ: “لقد غرسوا أسنانهم في صدرك، وتلطخ جلبابك بالدماء”، التفت إليّ وقال: “أنت تهذي”، قلت في تحدَّ: “احضره الآن”، توجه إلى غرفته، وبعد ثوانٍ جاء إليّ مسرعًا، رمى الجلبابَ في فراشي، وعندما نشرته كان ملطخًا بالدماء، اتسعت عيناه، ارتجفت خدودُه، وصرخ قائلًا: “لا أصدق، لابد أنك أنت من فعل ذلك”، صرختُ بأعلى صوتي: “لم أفعلْ، لم أفعلْ”، أيقظت هذه الصرخةُ أبي النائمَ في الغرفةِ المجاورة، جاء مهرولًا، دفع بابَ غرفتي ودخل، أيقظني، جلس بالقرب مني، وقال: “كنت تصرخ، يبدو أن كابوسًا ما أزعج نومك المتقطع”، أبعدتُ الغطاءَ عن جسدي، جلستُ في منتصفِ السرير، وقلتُ: “حلمتُ بأنني عرفت سببَ الألمِ المفاجئ، وأنت أيقظتني داخل الحلم وتناقشنا، اشتد نقاشنا وعلت أصواتنا، ثم أيقظتني مرة أخرى، ولا أدري هل أنا الآن مستيقظٌ داخلَ الحلم أم خارجه”. وضع يديه على خدي، وقال: “هذه اللحظة خارجَ الحلم، أنا معك الآن”، قلتُ له: “هذا أساسُ المشكلة، لأنك كنت معي في كلِّ اللحظات السابقة التي ظننتها خارجَ الحلم”، قال: “ألا تثق بي؟” قلتُ: “أثق بك، لكنني لا أثق بأحلامي”، لم يقلْ أبي شيئًا، توجه ناحيةَ البابِ وخرج، نهضتُ من فراشي، تجولتُ في الطرقات، أخذتني قدماي إلى النيل، قررتُ اختبارَ هذه اللحظةِ بالقفزِ داخل النهر وتسليمِ نفسي للتيار، خلعتُ حذائي، أخرجتُ هاتفي، أرسلت رسالةَ وداع ٍلأبي، وضعتُ الهاتفَ بالقربِ من الحذاء، وقفزتُ.