Bright flames dancing against a dark night backdrop, creating warmth and glow.

أرواح لم تتشكّل بعد- القصة الفائزة بالجائزة التقديرية في مسابقة الطيب صالح للقصة القصيرة التي ينظمها مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي (2015)

 

أرواح لم تتشكّل بعد
سيل من التحذيرات انهمر على رأسه الكبير، بعد اتخاذه قرار مغادرة قريته، والهروب إلى المدينة؛ لاكتساب المعرفة في أحد مراكزها التنويرية، حُذر من الشماسة، الصعاليك، شرّابي البنقو، سفافي الصعوط، بنات الحرام، المتبرجات منهن والمحتشمات، الماديين، تجّار الدين، السياسة وأركان النقاش، الأولاد الحناكيش منهم و المتحنكشين، الشلليات، الروابط و الجمعيات خفية المقاصد. والشر يطارد الخير كأنه ظله، و المراكز التنويرية تحمل في طياتها الشر والخير، الموت والخلود، تيارات متضاربة الأفكار. ولكن، عبد الله خبر الحياة، ذاق مرها وحلوها، وسقته بكل كاساتها.

استقر مع رفيقيه (لؤي و سامر)، في سكن مزدحم بالطلاب والأوساخ، توجد به صفوف في الحمامات، وروائح تهاجم الأنف بعنف، في غرفة بها عدد من الأسرّة، دولابان صغيران، وطاولة خشبية متهالكة. زميله لؤي شاب أبيض البشرة، شعره جعِد، متوسط القامة، يكاد يسحرك بوسامته، مثقّف أكثر مما كان يتصور عبد الله، ميسور الحال، وناجح بكل المعايير، وما يُؤخذ عليه، هو رِقّته الزائدة، واهتماماته البناتية، يعتني ببشرته بطريقة محيِّرة، يصرف مبالغه طائلة، في شراء المساحيق، يعرف كل شيء عن أنواع البشرة، وطرق وقايتها من الشمس، أنواع الزيوت التي تغذيها، ويحدثك بثقة، عن بشرة فنانات أوروبا، ومسابقات الجمال.

في سكن الطلاب المليئ بالتناقضات، كانت أموال لؤي تختفي باستمرار، فثمّة خسيس بينهم، رائحة الشك تملأ زوايا الغرفة، كأنهم في مركب متهالك، وهناك خائن بينهم، لابد أن يعترف، ويسلم نفسه للبحر، ودون مجهود كبير، قُبض على سامر، محاولًا الإعتداء على دولاب زميله. عندما غادر الجميع، حاول أن يستغل غيابهم، لكن الكمين كان ناجحًا. وصدمة عبدالله كانت كبيرة، ظن أن الضربات المؤلمة تأتي من الغرف البعيدة، لكن اكتشف أن الخائن من أهل المنزل.

غادر سامر الغرفة، في ظروف غامضة، بعد أن خان صديقيه، وبصق على الإناء الذي يأكل منه، يسأل عبد الله لؤي باستمرار، عن الرحيل المفاجئ لصديق العُمر، هل أزعجه أحد؟ أو أساء إليه؟ ولؤي يُقسِم بأن شيئًا من ذلك لم يكن، وسبب مغادرته كان تافهًا، واللصوص يغادرون بلا سبب.

التقى عبد الله بسامر في الكافتريا، سأله عن سبب الهجرة المفاجئ، وما ذكره سامر، كان لا يمكن تصديقه بسهولة، تحدث بكبرياء:
ـ صديقك لؤي هو وراء مغادرتي الغرفة، صحيح أنني أناني و جشع، أفكّر في مصالحي الشخصية، لكن صديقك أبشع مني سلوكًا، و ما طلبه مني عندما كنا وحدنا قبل أيام، في غياب الجميع، بعد أن أغلق الغرفة من الداخل، تجرد من ملابسه، ومن القيم والأخلاق، العُرف والقانون، رائحة الشيطان كانت تملأ الغرفة، ذلك الطلب السخيف، أكد لي انحرافه، قلتُ له أنني لا أطعن بخنجري الرجال من الخلف، بل أواجههم من الأمام، بقوة الحجة والمنطق، وأحفر بذات الخنجر، الأرض الخصبة، التي تنتج أجيالًا تخلّد اسمي، فهددني، و ترجاني ألا أخبر أحدًا.

غادر عبد الله الكافتريا، دون أن يتناول الطعام، أو يطلب الإذن من محدثه، دون أن يقرر إلى أين هو ذاهب، يدخل الغرفة ويستلقي، يدخل في تفكير عميق، يحدث نفسه، يتمتم بعبارات، هذيانات لا جدوى منها:

ـ لاشك أن سامر كذاب، يريد أن ينتقم لكرامته، لكن هل يصل به الكذب إلى هذا الحد؟ لؤي محترم ومؤدب، مثقف، غني وكريم، لا تليق به هذه التُهم، لكن حركاته بناتية، إنسان لين البنية، وهذا ما يجعلني أكاد أصدق أدعاء سامر الكذاب، هذا أمر لا يُسكت عليه، لابد أن أحسمه مهما كان الثمن، فلتحدث بينهما فتنة، صراع، موت، أي شيء، لا يهمني؛ لكن يستحيل عليّ أن أقيم مع إنسان تلاحقه مثل هذه التهمة، سوف تتلطّخ سمعتي، ويتدنس شرفي، لكن عليّ أن أفهم أن هذا مجرّد إدعاء، والتهمة لم تثبت بعد، ولؤي قد يكون بريئًا، يجب أن أغادر هذه الغرفة، لابد أن أبتعد عنه، لكن إلى أين؟ سأسأله بنفسي عن هذا الموضوع، كيف أسأله هذا السؤال السخيف؟ بالتأكيد، يدرك سامر أنني لا أستطيع أن أسأل لؤي هذا السؤال الصعب، تبًا لهما معًا، تبًا للجميع، ما ذنبي أنا؟ إذن على الأقل سأقول له، اترك (الحنكشة)، كن قويًا، ماذا أصنع؟ أين الحقيقة؟ من أُصدّق ومن أُكذّب؟ كلهم يقولون لي أنهم محقون، يا لها من فوضى، هل توجد حقيقة؟ فلنفترض أن هناك حقيقة، فمن يمتلكها؟ سامر أم لؤي؟ السفسطائيون أم مثبتو الحقائق؟ العقلانيون أم التجريبيون، السلفيون أم المتصوفة، الغرب أم الشرق، المستعمر أم أبناء الوطن، الشعوب أم الحكّام؟
لا مجيب عن هذه التناقضات، لقد أعلن الجميع الصمت، صمت الساعة الثالثة صباحًا. يقرر في حيرته، أن يصمت أيضًا، يترك كل شيء إلى غد، ويحلم بصبح مشرق، يشفي كل الآلام، يجيب عن كل التساؤلات، ويحل كل التناقضات، فيغرق في صمته العميق

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *